يقول عز من قائل " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا " (التحريم : 5 )
ومن هنا فقد ظننت أن ما فهمته من هذه الآية الكريمة لم يسبق إليه أحد من قبل ، إلا أن تكون إشارت لا تفى بالغرض ، فهذه الآية الكريمة ، كما نفهم تحمل الصفات التى جاءت فى خير النساء طرا وهي :
1- " مسلمات " تعنى : خاضعات لله بالطاعة
2- " مؤمنات " : يعني مصدقات بالله ورسوله.
3- " قانتـــات " : مطيعات لله.
4- " تائبـــات " : راجعات إلى ما يحبه الله منهن من طاعته عما يكرهه منهن. 5- " عابدات " : متذللات لله بطاعته
.
6- " سائحات " : صائمات ، هذا المعنى جاء فى أقوال ابن عباس وقتادة والضحاك ، وقال آخرون: السائحات: المهاجرات ، وقال ابن زيد : ليس في القرآن ، ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة ، وهي فى قوله تعالى (السائحون ). وكان بعض أهل العربية يقول : نرى أن الصائم إنما سمي سائحا ، لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل حيث يجد الطعام ، فكأنه أخذ من ذلك.
7- " ثيبات " : وهن اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهن.
8- " وأبكارا " : وهن اللواتي لم يجامعن ، ولم يفترعن.
كما أن الآية الكريمة تحمل أيضا خطابا خاصا موجه لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فالخطاب جاء يشملهن ك
لهن ، وإن كانت العلة فيه عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، ويتضح ذلك من قوله تعالى : " إن تتوبا إلى الله "
وجاء الخطاب على طريقة الإلتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما والتوبة من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء.
" فقد صغت قلوبكما " ، أي عدلت ومالت عن الحق ، وهو حق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك حق عظيم يوجد فيه استحقاق العتاب بأدنى تقصير.
يقول الإمام الطبري فى تفسيره المسمى (جامع البيان في تأويل القرآن) قيل : إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه ، لما اجتمعن عليه في الغيرة.
جاء فى سبب نزول هذه الآية رواية أنس عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : بلغني عن بعض أمهاتنا ، أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهن إياه ، فاستقريتهن امرأة امرأة ، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : إن أبيتن أبدله الله خيرا منكن ، حتى أتيت ، حسبت أنه قال على زينب ، فقالت : يا ابن الخطاب ، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأمسكت ، فأنزل الله سبحانه " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن "
ولكن – ما سبب هذه الشدة ، وما نوع الايذاء الذى تعرض له النبي من أزواجه ؟
ذكر الواحدي فى (أسباب النزول) أن سبب نزول سورة التحريم " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " ، وما بعدها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت: لم تدخلها بيتى ، ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك ، فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، هي علي حرام إن قربتها ، قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها لا يقربها ، وقال لها : لا تذكريه لأحد ، فذكرته لعائشة ، فأبى أن يدخل على نسائه شهرا ، واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله تبارك وتعالى - لم تحرم ما أحل الله لك - الآية.
ولا يشغلنا ورود سبب آخر لنزول الآية عن المطلوب ، بل ما تلفتنا إليه الآيات أن الله سبحانه وتعالى بعد أن عاتب أمهات المؤمنين على تقصيرهن فى حفظ حق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو حق عظيم ، كشف لنا عن عظمة نبيه بما لا تطيقه الجبال ، حتى يشعرهن بالأولى بهن من غيرهم ، وهو توقيره ونصرته وتأييده ورعاية حق نبوته ورسالته ، فليس هو زوجا كالأزواج ، كما أنهن لسن نساء كالنساء.
والمتأمل المتدبر فى الآيات الكريمة سيرى ما انكشف لأمته صلى الله عليه وسلم ، وما علمته أمهات المؤمنين علم اليقين من تهديد الله سبحانه وتعالى لهن ، فقد علمن علما هو عين اليقين قدر نبي الله صلى الله عليه وسلم وعظمته ومنزلته عند ربه سبحانه وتعالى !
وذلك فى قوله تعالى : " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير" (التحريم : 2 )
هنا تعلونا الدهشة ، ويكسونا البشر والفرحة ، فما أعظم كرامتك يا نبي الله وعظم قدرك ومنزلتك عند ربك سبحانه وتعالى !
يخوف الله جل شأنه أمهات المؤمنين ، بألا يتعاون على إيذاء حبيبه صلى الله عليه وسلم ، ويخوفهن من نفسه سبحانه ، فالله مولاه وناصره ، فلا يضره اجتماعكن وتظاهركن عليه ، ومن كان الله سبحانه وتعالى مولاه ، فكل خلقه من صالح المؤمنين تبعا لذلك ، ويتفرد كبير الملائكة ورئيسهم جبريل عليه السلام من قبل أولئك جميعا بالنصرة والمولاة لحبيب الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قرن الله سبحانه وتعالى ذكره بذكره مفردا له من الملائكة تعظيما له وإظهارا لمكانته عنده سبحانه وتعالى ، ويأتى من بعده صالح المؤمنين.
وقد تعددت أقوال الكثيرين من أهل التفسير كمقاتل والضحاك وغيرهما فيمن المقصود بصالح المؤمنين ، فمن قائل :
1- أنهم خيار المؤمنين.
2- وقيل : من صلح من المؤمنين ، أي كل من آمن وعمل صالحا.
3- وقيل : من بريء منهم من النفاق.
4- وقيل : الأنبياء كلهم.
5- وقيل : الخلفاء .
6- وقيل : الصحابة.
والحق أن ما فهمناه أن كلمة ( صالح المؤمنين ) كلمة عامة تشمل كل المؤمنين ، فلا يظن عاقل أن المنافقين منهم ، إلا أن يكون القصد سلب صفة ليست فيهم ، وتأكيدا على خلو الصالحين من كل ما يشوش حقيقة الإيمان والعمل الصالح ، وإلا ما جاءت الآية بقوله سبحانه وتعالى بلفظ " صالح " ، فالصلاح كما نفهم من أقوال أهل الحق والحقيقة دائرة كبرى تشمل جميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وفيهم الأولياء والأنبياء والمرسلين ، فلا يظن أبدا أنها مقصورة على طبقة منهم دون أخرى.
يقول الإمام الفخر الرازي فى ( مفاتيح الغيب) أن لفظ : " صالح " ههنا ينوب عن الجمع ، ويجوز أن يراد به الواحد والجمع.
وقال ابن عباس : يريد أبا بكر وعمر.
وهذا كلام ينزل من ترجمان القرآن على قلوبنا بردا وسلاما ، وبخاصة لو تنبهنا أن أبا بكر والد عائشة رضي الله عنهما ، وأن عمر هو والد حفصة رضي الله عنهما ، كما أن عمر رضي الله عنه هو الذى وعظهن ، فلم يرتدعن حتى نزلت الآية على مراده ، فكان الشيخان هما من بين صالح المؤمنين الأولى بعد جبريل عليه السلام فى موالاة ونصرة نبي الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم على من عاداه.
ولا شك أن من تولاه الله تعالى بنصرته ، كان حزب الله كلهم فى موالاته ونصرته ، وعلى رأسهم جبريل عليه السلام منفردا ، ثم أبو بكر وعمر لبيان عظم المنقبة ، وكبير المنزلة التى لهما عند ربهما سبحانه وتعالى ، فهما يواليان الله ورسوله بأموالهما ، وأهليهما ، ونفسيهما ، فلا يؤثران شيئا على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتى بعد ذلك الملائكة جميعا صفا صفا وراء جبريل عليه السلام فوجا ، أعوانا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وسندا له ، وتتوالى صفوف حزب المحبة الإلهية من ملك وجان وإنس وحيوان ونبات وجماد فى مسانده صلى الله عليه وسلم تبعا لذلك ، وهو ما كشفنا عن بعضه مفصلا فى كتابنا ( الكون كله خريطة محمدية )!
ذلك كله فى معرض تخويف نساءه صلى الله عليه وسلم ، وتقصيرهم فى حقه وموالاته وتقديره وتوقيره.
ويزيد ذلك ما توعدهم الله تعالى به فى قوله سبحانه وتعالى : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن "
وهنا يجب علينا أن نتنبه لتلك الإشارات اللطيفة فى قوله سبحانه وتعالى " عسى ".
لقد سرنى ما ذهب إليه الزَّبيدي صاحب ( تاج العروس) من أن " عسى " متى جاءت فى جميع آيات القرآن الكريم ، فهي من الله سبحانه وتعالى إيجاب ، إلا قوله تعالى : " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " !
وهذا ما فهمناه من سياق الآية الكريمة من قبل أن نرجع إلى معاجم اللغة وبخاصة ( تاج العروس ) ، لأن الله سبحانه وتعالى خاطب نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التخويف ، فلم يطلقهن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يبدله الله سبحانه وتعالى نساء غيرهن .
ومن هنا علمنا علما يقينيا أن تلك الصفات الثمانية التى جاءت فى الآية الكريمة ، هي هي صفات أمهات المؤمنين ، صفات خير النساء طرا ، وهي كما سبق :
1- مسلمات
2- مؤمنات
3- قانتات
4- تائبات
5- عابدات
6- سائحات
7- ثيبات
8- وأبكارا
وقد سبق أن تعرفنا على معانى تلك الصفات.
ولكن ابن كثير فى ( تفسير القرآن العظيم ) أتى بكلام طيب فى تفسير قوله تعالى : " ثيبات وأبكارا " أي: منهن ثيبات ، ومنهن أبكارا، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس ، فإن التنوع يبسط النفس.
ولم يكتف بهذا ، بل توسع فى ذلك ، فجاء بأحاديث أكد هو أنها ضعيفة ، تقول أن المقصود بالثيبات : هي آسية امرأة فرعون. أما الأبكار : فهي مريم ابنة عمران .
ولا شك أنه قد أضاف لنا فهما ومعان جديدة لم تكن عندنا.
ولكن - ما يعنينا الآن ، وهو الأولى بفهمنا أن الوصف " ثيبات وأبكارا " جاء شاملا لكل أزواجه سواء كن ثيبات أو كن أبكارا ، فعم الثيبات من أزواج الدنيا ، ولا يمنع أن يشمل معهن أزواج الجنة وفيهن آسيا بنت مزاحم.
كما أن قوله تعالى " وأبكارا " يفيد الجمع ، وبخاصة لو علمنا أنه ليست واحدة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ممن تزوجها بكرا سوى عائشة رضي الله عنها ، فيأتى الجمع ليناسب ما يكون عليه الأمر فى الآخرة ، فقد يكون فيه إشارة إلى مريم ابنة عمران عليها السلام ، ولا يمنع من أن تكون أخت موسى عليه السلام من الأبكار ، فقد ذكر ابن كثير حديثا فى ذلك ، وضعفه.
قال أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون ؟ فقلت: هنيئا لك يا رسول الله "
نعم ، نحن نحب لنبينا أن يبنى فى الجنة بهاتين المرأتين اللتان ضربتا مثلا للذين آمنوا ، وجاء ذلك المثل فى سورة التحريم بالذات ، وهي ذات السورة التى جاء فيها وصف أمهات المؤمنين ، ليكون فى ذلك مناسابة جليلة ، و إشارة لطيفة تضم المرأتين إلى أمهات المؤمنين ، هذا من وجه .
ومن ثم ، يكون هو صلى الله عليه وسلم أبا لعيسى عليه السلام معنى ، فكما أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ، فهو صلى الله عليه وسلم أبا لجميع المؤمنين ، فهو أولى بهم منهم.
يقول سبحانه وتعالى : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا " (6)
وأورد ابن كثير الكثير من الأحاديث التى تؤيد فهمنا ، فقد روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس أنهما قرآ " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم "
وروي نحو هذا عن معاوية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن.
وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي ، كما حكاه البغوي وغيره.
ولما كنا لا نريد أن نشغل القارئ عما بدأناه ، أرجأنا الكلام فى أبوة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين إلى بحث آخر ، والله المستعان.
وعموما ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أب لجميع المؤمنين ، كما أن أزواجه أمهاتهم ، فهو مولاهم ، وليس له صلى الله عليه وسلم من بينهم أبا يتولاه بالرعاية والعناية والنصرة والتأييد والعصمة ، فلم يبق إلا الله سبحانه وتعالى له مولى يكفله ، ومربيا يغذيه ويرشده ، وحافظا وعاصما وناصرا ومعينا ، فهو مطلوب العناية الإلهية من دون خلقه سبحانه وتعالى.
يقول عز من قائل " ووجدك ضالا فهدى " ( الضحى : 7 )
هذا ، فليس له إلا ربه سبحانه وتعالى ، فهو إلهه ومولاه ، فلا ناصر له إلا هو ، ومن كان الله مولاه ، فكل ما فى الكون من حزب المحبة الإلهية من العرش إلى الفرش عونا له على من عاداه ، وناصرا ، وانظر فى ذلك كتابنا ( الكون كله خريطة محمدية )، فقد كشفنا عن حقيقة حزب المحبة الإلهية بشكل – على حد علمنا - لم يسبق إليه.
لقد أفرده ربه سبحانه وتعالى من بين خلقه ، كما أفرد جبريل عليه السلام من بين الملائكة ، فليس له نظير من خلق الله سبحانه وتعالى إلا جبريل عليه السلام ، فهو أخيه ، فطالما سأله ، كما فى رحلة الإسراء والمعراج خاصة ، قائلا : ما هذا يا أخى يا جبريل ؟
ثم أفرد الحق سبحانه وتعالى صاحبيه أبى بكر وعمر رضي الله عنهما من بين صحابته صلى الله عليه وسلم ، فلا يطاولهما فى مقامهما صفوف الملائكة.
وذلك فى قوله تعالى : " والملائكة بعد ذلك ظهير "
وهذا يعنى أن مقام صالح المؤمنين أعلى من باقى الملائكة دون جبريل عليه السلام ، فهو صف وحده ، كما أن الله سبحانه وتعالى أفرد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من بين إخوانه بالأولية والختام ، وخصه بخصائص المجموع ، فلم تجتمع في أحد من قبله صفات وخصائص التفضيل على التمام والكمال والشمول والكلية والفطرة كما اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم ، فهو خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم ، وصاحب الخلق العظيم ، وهو رحمة الله للعالمين ، فلا يجارى ! ( اظر فى ذلك إجمالا وتفصيلا ، كتابنا : الاصطفاء والاجتباء وأنوار الأنبياء ).
انظر أيها المحب الفطن ، كم مقدار الخوف والرهبة التى سرت فى أوصال أمهات المؤمنين ، بعد هذا التوصيف الإلهي لمقام نبيه صلى الله عليه وسلم وعظيم كرامته وقدره عند ربه سبحانه وتعالى!
وبهذا تكون المناسبة بين قوله تعالى : " وضرب الله مثلا للذين آمنوا " الآية ، وبين قوله وتعالى : " وصالح المؤمنين " ، وعائشة وحفصة ، مناسبة تامة.
واعلم سر امتثالهن لأمر ربهن ، وما في ذلك من عظمة معرفتهن بما يرد عليهن من ربهن سبحانه وتعالى ، فما رغبن فى شيء ليس فيه رضاء الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فظهرت كرامتهن عند الله سبحانه ، وبانت منزلتهن عند رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد أمر ألا يبدل بهن غيرهن.
بقول له ربه سبحانه " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا " ( الأحزاب : 52 )
فامتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه سبحانه وتعالى ، وذلك من عظيم عناية الله تعالى بأمهات المؤمنين ، وما لهن عند الله سبحانه وتعالى من الكرامة ، فليس فى الكون كله نساء أعلى منهن فى درجات الإيمان والعلم بالله تعالى !
يقول عز من قائل فى بيان منزلتهن وأنهن لسن كأحد من النساء ، آمرا لهن " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا " ( الأحزاب : 32- 33 )
ومن هنا قلت أن تلك الصفات التى ذكرت فى آية التحريم ، ليست إلا وصفا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قارب ذلك المعنى الشهيد صاحب ( في ظلال القرآن ) ، بقوله أن تلك الصفات : هي الصفات التي يدعوهن إليها عن طريق الإيحاء والتلميح.
وهو تأكيد لما قلناه ، أن ما جاء إنما هو صفات أمهات المؤمنين.
لكن - يبقى العدد ، فصفاتهن فى الآية ثمانية صفات ، فإن تأكد لنا أن أمهات المؤمنين كن ثمانية تأكد لنا أكثر ما توصلنا إليه من فهم ، ، فكم كان عددهن عندما نزلت هذه الآية الكريمة ؟
جاء فى ( الاستيعاب في معرفة الأصحاب ) لابن شهاب ، ما يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه بدأ بها ، فاختارت الله ورسوله. قالت: وتتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على ذلك.
وهؤلاء هن نساءه صلى الله عليه وسلم اللائى توفى عنهن وكان عددهن ، فيما اتفق عليه علماء السير تسع من أمهات المؤمنين.
وهذا العدد من جملة عدد نسائه صلى الله عليه وسلم اللائى دخل بهن ، فيما اتفق أهل السير عليه ، وهو إحدى عشر امرأة ، هن :
أ - ست من قريش ، كما يلى :
1- خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
2- وسودة بنت زمعة رضي الله عنها.
3- وأم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها.
4- وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها.
5- وحفصة بنت عمر رضي الله عنها.
6- وأم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها.
ب - أربع من العربيات :
1- زينب بنت جحش رضي الله عنها.
2- وميمونة بنت الحارث رضي الله عنها.
3- زينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
4- وجويرية بنت الحارث رضي الله عنها.
ج- واحدة من غير العربيات ، وهي :
جويرية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها رضي الله عنها ، من بني النضير من بني إسرائيل من ولد هارون عليه السلام.
وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه ، هما :
1- مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام. 2- وريحانة.
وتوفي في حياته صلى الله عليه وسلم من أزواجه اثنتان هما :
1- خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
2- وزينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
ومن هنا يكون عدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم اللاتى توفى عنهن تسعة.
ولعل ما يقوى ذلك أن هذا العدد هو نفس العدد الذى وجدناه عند ابن هشام فى سيرته المشهورة باسمه ( سيرة ابن هشام ) ، فقد ذكر أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كن تسعا ، وهن :
1- عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها.
2- وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها.
3- وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله عنها.
4- وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة رضي الله عنها.
5- وسودة بنت زمعة بن قيس رضي الله عنها.
6- وزينب بنت جحش بن رئاب رضي الله عنها.
7- وميمونة بنت الحارث بن حزن رضي الله عنها.
8- وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنها.
9- وصفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها.
هؤلاء هن نساءه صلى الله عليه وسلم اللاتي ذكرهن ابن هشام فيما حدثه غير واحد من أهل العلم لم يختلف منهم أحد.
وهذا العدد تسعة هو عدد نساءه صلى الله عليه وسلم اللائى توفى عنهن.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من صفات أمهات المؤمنين الثمانية ، فكيف يتفق لنا ، ويتسنى لنا القول بأن عدد نسائه صلى الله عليه وسلم على عدد الصفات الثمانية الموصوفات بها فى الآية الكريمة سابقة الذكر من سورة التحريم ؟!
كيف يمكن القول أنهن ثمانية نساء وقد اتفق علماء السير – كما ذكرنا - أنهن كن تسعة توفى عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
جاء في الصحيحين عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة.
قال عطاء بن أبي رياح: هي صفية بنت حيي بن أخطب.
قلت: هذا على رواية من روى أنه لم يعقد عليها ولم يحجبها المتقدم خلافها وعدها في أمهات المؤمنين .
ولقوله تعالى : " ترجى من تشاء منهن وتئوي إليك من تشاء" ( الأحزاب : )
ترجى : تؤخر.
وتؤوي ، يعني : تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء منهن.
روى أنه أرجأ منهم سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة. وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء.
وأوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش.
أرجأ خمسا. وآوى أربعا. كذا ذكره المنذري.
وجاء فى ( سبل الهدى والرشاد ) للصالحي الشامي ما ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لثمان منهن دون التاسعة.
ووقع في صحيح مسلم من قول عطاء أن التي لم يقسم لها هي صفية بنت حيي .
ولكن – ابن القيم فى ( زاد المعاد ) يقول أن ذلك غلط من عطاء - رحمه الله تعالى - وإنما هي سودة بنت زمعة رضي الله عنها ، فإنها لما كبرت وهبت نوبتها لعائشة رضي الله عنها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
ثم يأتى ابن القيم لبيان ما استند إليه من غلط ووهم عطاء رحمه الله تعالى ، فسبب هذا الوهم -– كما يقول - والله تعالى أعلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وجد على صفية في شيء ، فقالت لعائشة: هل لك أن ترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم عني وأهب لك يومي ؟
قالت : نعم .
فقعدت عائشة إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صفية ، فقال: إليك عني يا عائشة ، فإنه ليس يومك.
فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فأخبرته بالخبر فرضي عنها ، وإنما كانت قد وهبت لها ذلك اليوم وتلك النوبة الخاصة لذلك .
ومن هنا يحق لنا القول أن الصفات الثمانية هي لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، ولا نستثنى منهن أحدا ، فهن تسع فى العدد ، وثمانية فى االعمل ، فيكون العدد مناسبا لعدد أبواب الجنة ، من ناحية .
ومن ناحية ثانية يكون مناسبا مناسبة بالمطابقة لصفات المؤمنين فى سورة التوبة.
ذلك باعتبار أن صفة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تعد صفة واحدة!
يقول عز من قائل " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين " ( التوبة : 111- 112 )
ومن هنا نتساءل : هل مازال أحد من أهل القبلة ينازع فى شرف خير نساء العالمين ؟
وهل يعقل أو يقبل من أحد أن يتصور فيمن تلك صفاتهن سوءا ؟!
وهل يطاوعك قلبك ولسانك يا من تزعم أنك على دين الإسلام ، ملة خير البرية ؛ أن تسيئ لمن أحسن إليهن الله وفضهن على العالمين ؟
وهل تتجرأ بعد ذلك وتتألى على الله ويفتئت كذبا وزورا ، فتتهم من شرفهن الله ، فجعلهن أمهات المؤمنين ؟
ألم تقرأ قوله تعالى : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ؟
لم يبق لك أيها المسيء إلا أن تثوب إلى رشدك ، وترجع إلى صوابك ، وتتوب إلى الله توبة نصوحا ، عسى ربك أن يتقبل توبتك ، فترجو ثوابه ، و إلا فانتظر عقابه ، فهو سبحانه وتعالى ولي الذين آمنوا ، فلا يتركهم نهبا للظالمين ، فهو يملى للظالم ، فإذا أخذه لم يفلته ، فاحذر !
********
( وعلى الله قصد السبيل )
بقلم/ دكتور / عبد العزيز أبو مندور